سورة التوبة - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


قلت: {إن}: شرط، وجوابه محذوف، دلّ عليه قول: {فقد نصره الله} أي: إن لم تنصروه فسينصره الله، الذي نصره حين أخرجه الذين كفروا، حال ثاني اثنين، فدل بنصره في الماضي على نصره في المستقبل، وإسناد الإخراج إلى الكفرة؛ لأن همهم بإخراجه أو قتله كان سبباً لإذن الله له في الخروج، و{إذ هُما}: بدل من {أخرجه}؛ بدل البعض، و{إذ يقول}: بدل ثان، و{كلمة الله}: مبتدأ، و{العليا}: خبر، وقرأ يعقوب: بالنصب؛ عطفاً على {كلمة الذين كفروا}، والأول: أحسن؛ للإشعار بأن كلمة الله عالية في نفسها، فاقت غيرها أم لا.
يقول الحق جل جلاله: {إلاّ تنصروهُ}؛ تنصروا محمداً، وتثاقلتم عن الجهاد معه، فسينصره الله، كما نصره حين {أخرجه الذين كفروا} من مكة، حال كونه {ثاني اثنين} أي: لم يكن معه إلا رجل واحد، وهو الصدِّيق، {إِذْ هما في الغار}؛ نقب في أعلى غار ثور، وثور جبل عن يمين مكة، على مسيرة ساعة. {إِذْ يقول لصاحبه}: أبي بكر رضي الله عنه: {لا تحزنْ إنَّ الله معنا} بالعصمة والنصرة.
رُوي أن المشركين طلعوا فوق الغار يطلبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين فقدوه من مكة، فأشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: «ما ظَنُّكَ باثنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهِما» فأعماهم الله عن الغار، فجعلوا يترددون حوله فلم يروه. وقيل: لما دخل الغار بعث الله حمامتين، فباضتا في أسفله، والعنكبوت نسجت عليه.
{فأنزل اللَّهُ سكِينَتُه} أي: أًمْنَه الذي تسكن إليه القلوب، {عليه} أي: على رسوله صلى الله عليه وسلم، أو على صاحبه، {وأيَّده بجنودٍ لم تَرَوها}، يعني الملائكة، أنزلهم ليحرسوه في الغار، أو يوم بدر وأحد وغيرهما، فتكون على هذا: الجملة معطوفة على: {فقد نصره الله}. {وجعلَ كلمةَ الذين كفروا} وهي الشرك، أو دعوى الكفر، {السفلى وكلمةُ الله} التي هي التوحيد، أو دعوة الإسلام، {هي العُليا}؛ حيث خلص رسوله صلى الله عليه وسلم من بين الكفار، ونقله إلى المدينة، ولم يزل ينصره حتى ظهر التوحيد وبطل الكفر، {والله عزيزٌ}؛ غالب على أمره، {حكيم} في أمره وتدبيره.
الإشارة: ما قيل في حق الرسول صلى الله عليه وسلم يقال في حق ورثته، الداعين إلى الله بعده؛ من العارفين بالله، فيقال لمن تخلف عن صُحبَة ولي عصره وشيخ تربية زمانه: إلا تنصروه فقد نصره الله وأعزه، وأغناه عن غيره، فمن صحبه فإنما ينفع نفسه، فقد نصره الله حين أنكره أهله وأبناء جنسه، كما هي سنة الله في أوليائه، لأن الداخل على الله منكور، والراجع إلى الناس مبرور، فمن دخل مع الخصوص قطعاً أنكرته العموم، فنخرجه ثاني اثنين هو وقبله، فيأوي إلى كهف الأنس بالله، والوحشة مما سواه، فيقول لقلبه: لا تحزن إن الله معنا، فينزل الله عليه سكينة الطمأنينة والتأييد، وينصره باجناد أنوار التوحيد والتفريد، فيجعل كلمة أهل الإنكار السفلى، وكلمة الداعين إلى الله هي العليا، والله عزيز حكيم.


قلت: {يُهلكون}: حال من فاعل (يحلفون)، أو بدل منه. قال في القاموس: {الشقة} بالضم والكسر: البُعد والناحية يقصدها المسافر، والسفر، البعيد والمشقة. اهـ.
يقول الحق جل جلاله: {انفرُوا} للجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم، حال كونكم {خِفافاً}؛ نشاطاً، {وثِقالاً}؛ كسالى لمشقته، أو {خفاقاً} لمن قَلَّ عياله، {وثقالاً} لمن كثر عياله، أو خفافاً لمن كان فقيراً، وثقالاً لمن كان غنياً، أو خفافاً ركباناً، وثقالاً مشاة، أو خفافاً بلا سلاح، وثقالاً بالسلاح، أو خفافاً شباباً، وثقالاً شيوخاً، أو خفافاً أصحاء، وثقالاً مرضى. ولذلك قال ابنُ أمِّ مكتوم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أَعَليَّ الغزو يا رسول الله؟ قال: «نعم» حيث نزل: {ليسَ عَلَيكُم جُناح} [النور: 61]. {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} أي: بما أمكن؛ إمّا بهما أو بأحدهما، {ذلكم خير لكم}، مِنْ تركه، {إن كنتم تعلمون} ما في ذلك من الأجر العظيم والخير الجسيم، أي: لو علمتم ذلك ما قعدتم خلف سرية.
ثم عاتب من أراد التخلف، فقال: {لو كان عرضاً قريباً} من الدنيا، {وسفراً قاصداً}؛ متوسطاً أو قريباً، {لاتَّبعوك} أي: لو كان ما دعوا إليه أمراً دنيوياً، كغنيمة كبيرة، أو سفراً متوسطاً، لاتبعوك ولوافقوك على الخروج، {ولكن بَعُدتْ عليهم الشُّقَّةُ} أي: المسافة التي تقطع بمشقة، وذلك أن الغزوة أي: تبوك كانت إلى أرض بعيدة، وكانت في شدة الحر، وطيب الثمار، فشقت عليهم. {وسيحلفون بالله} أي: المتخلفون إذا رجعت من تبوك، معتذرين، يقولون: {لو استطعنا} الخروج {لخرجنا معكم}، لكن لم تكن لنا استطاعة من جهة العُدة والبدن وهذا إخبار بالغيب قبل وقوعه. {يُهلِكُونَ أنفسهم} بوقوعها في العذاب، {والله يعلم إِنهم لكاذبون} في ذلك؛ لأنهم كانوا مستطيعين الخروج، وإنما قعدوا كسلاً وجُبْناً، والله تعالى أعلم.
الإشارة: انفروا إلى الجهاد أنفسكم وقطع علائقكم وعوائقكم، لكي تستأهلوا لدخول حضرة ربكم، وسافروا إلى من يعينكم ويقوي مدد أجناد أنواركم، وهم المشايخ العارفون، فسيروا إليهم خفافاً وثقالاً، ونشاطاً وكُسَّالاً، والغالب أن النفس يشق عليها ما يكون سبباً في قتلها فلا ينفر إليها خفافاً أول مرة إلا النادر.
ثم أمر ببذل الأموال والمُهج في طريق الوصول إلى حضرة الله، وعاتب من تخلف عن ذلك وطلب الراحة والبقاء في وطن نفسه. قال القشيري: أمرهم بالقيام بحقه، والبدار إلى أداء أمره على جميع أحوالهم، {خفافاً} أي: في حال حضور قلوبكم، فلا يمسُّكم نَصَبُ المجاهدات، {وثقالاً} أي: إذا رُدِدتُم إليكم في مقاساة نصب المكابدات. فإن البيعةَ أُخِذَتْ عليكم في المنشط والمكره. اهـ. ومثله عند الورتجبي عن أبي عثمان قال: خفافاً وثقالاً؛ في وقت النشاط والكراهية، فإن البيعة على هذا وقعت، كما روى عن جرير بن عبد الله أنه قال: بايعنا رسول الله على المنشط والمكره. اهـ.


يقول الحق جل جلاله: لنبيه عليه الصلاة والسلام؛ ملاطفاً له في الكلام: {عفا اللَّه عنك لم أذنتَ لهم}، لِمَ بادرت إلى الإذن إلى المنافقين في التخلف، واستكفيت بالإذن العام في قولنا: {فَأذَن لِّمن شئتَ مَنهُم} [النور: 62]، فإن الخواص من المقربين لا يكتفون بالإذن العام، بل يتوقفون إلى الإذن الخاص. ولذلك عُوتِبَ يونس عليه السلام. والمعنى: لأي شيء أذنت لهم في القعود حين استأذنوك واعتذروا لك بأكاذيب؟ وهلا توقفت {حتى يتبين لك الذين صدقوا} في الاعتذار، {وتعلم الكاذبين} فيه.
قال ابن عطية: قوله: {الذين صدقوا} يريد: في استئذانك، وأَنك لو لم تأذن لهم لخرجوا معك، وقوله: {وتعلم الكاذبين} يريد: أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدِّك، وهم كَذَبة، قد عزموا على العصيان، أذِنتَ أو لم تأذن. اهـ. قال ابن جزي: كانوا قد قالوا: استأذنوه في القعود، فإن إذن لنا قعدنا، وإن لم يأذن قعدنا، وإنما كان يظهر الصادق من الكاذب لو لم يأذن لهم، فحينئذٍ كان يقعد العاصي والمنافق، ويسافر المطيع الصادق. اهـ.
{لا يستأذنُك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يُجاهدوا بالله واليوم الآخر أن يُجاهدوا بأموالهم وأنفسهم} أي: ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، بل الخُلَّص منهم يُبادرون إليه، ولا يوقفُونه على الإذن فيه، فضلاً عن أن يستأذنوا في التخلف عنه، {والله عليم بالمتقين}؛ فيثيبهم ويقربهم، وهي شهادة لهم بالتقوى وَعِدَةً لهم بثوابه.
{إنما يستأذنكَ} في التخلف {الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر}، وخصص ذكر الإيمان بالله واليوم الآخر؛ إشعاراً بأن الباعث على الجهاد والوازع عنه: الإيمان وعدم الإيمان بهما، {وارتابت قلوبهم} أي: شكَّت في الإيمان والبعث، {فهم في ريبهم يترددُون}: يتحيرون. ونزلت الآية في عبد الله بن أُبيّ والجَدُّ بن قيْس، وأمثالهما من المنافقين.
الإشارة: لا ينبغي للعارفين بالله؛ الداعين إلى الله، أن يأذنوا لمن استأذنهم في التخلف عن الجهاد الأكبر، ويرخصون له في البقاء مع النفس والهوى، وجمع حطام الدنيا، شفقةُ ورحمةً؛ لأن الشفقة في هذا المعنى لا تليق بأهل التربية، فقد قالوا: الشفقة والرطوبة لا تليق بشيوخ التربية، بل لا يليق بهم إلا الأمر بما تموت به النفوس، وتحيا به الأرواح، وإن كان فيه حتفُهم. وقد قالوا أيضاً: إذا كان الشيخ يحرش على المريد، ويقدمه للمهالك في نفسه أو ماله أو جاهه، فهو دليل على أنه يحبه وينصحه، وإذا كان يرخص له في أمورنفسه، ويأمره بالمقام معها، فهو غير ناصح له.
وأما الإذن في التجريد وعدمه: فإن رآه أهلاً له؛ لنفوذ عزمه، فيجب عليه أن يأمره به، وإن رآه لا يليق به؛ لعوارض قامت به؛ منعه منه، حتى ينظر ما يفعل الله به، وسأل رجلٌ القطبَ ابنَ مشيش، فقال له: يا سيدي؛ استأذنك في مجاهدة نفسي؟ فقال له: {لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستئذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون}.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10